في حلقة هذا الأسبوع من برنامج "قرأنا لكم" نتوقف عند إصدار للكاتب التشيكي ميلان كونديرا صدر عن دار "غاليمار" مؤخرا ويحتوي على نص مهم نشره الكاتب عام 1983 في مجلة "نقاش" المجلة الفكرية الفرنسية الشهيرة، بعنوان "الغرب مختطفا أو تراجيديا أوربا الوسطى" وهو نفس عنوان الكتاب. غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا ومقاومة الأوكرانيين لهذا الغزو أعاد إحياء هذا النص ومنحه بُعدا عميقا وإضافيا لكونه يعالج مسألة طمس الهوية الأوربية لبلدان أوربا الوسطى والشرقية ويتوقف فيه عند الانتفاضات الشعبية من اجل الحرية التي شهدتا براغ وفارسوفي عام 1956 ثم عام 1968 مؤكدا على دور الهوية الثقافية الأوربية لهذه البلدان في مواجهة الاتحاد السوفياتي سابقا الذي بسط سيطرته على هذه الابلدان بعد الحرب العالمية الثانية.
وبعتبر كونديرا أن هناك ثقافة أوربية متأصلة وراسخة في بلدان أوربا الوسطى التي تتواجد جغرافيا بين ألمانيا وروسيا وأن تشبث شعوب هذه البلدان بالثقافة الأوربية كان دوما بمثابة زورق نجاة من الهيمنة الثقافية الروسية التي حاولت طمس معالم وملامح هذه الثقافة بكل السبل. ويؤكد كونديرا على أن الحركة الثقافية والابداع في كافة أشكاله أدبا ومسرحا وسينما وفكرا وفنا في تشيكسلوفاكيا السابقة كانت هي وقود انتفاضة ربيع براغ التي نشط فيها بقوة الكتاب والشعراء والمفكرون والفنانون. وهذا ما عكسته كتابات العديد من كتاب وفناني بلدان أوربا الوسطى مثل ستيفان زفيغ أو سيوران أو كونديرا نفسه في رواياته الشهيرة مثل "كائن لا تحتمل خفته" أو "الضحك" وغيرها من الروايات التي فتحت عيون القراء في العالم أجمع على جرائم الهيمنة الروسية على بلدان أوربا الوسطى. ويقول كونديرا في هذا الصدد:
"إن هوية شعب أو حضارة ما تنعكس وتتلخص في مجموع الابداعات الروحية التي نطلق عليها عادة اصطلاح "ثقافة". وإذا وتعرضت هذه الهوية إلى خطر فتّاك فسنلاحظ أن الحياة الثقافية تتكثف وتقاوم وتصير الثقافة هي القيمة الحية التي يجتمع حولها الشعب ويجمع عليها. ولهذا فإن الذاكرة الثقافية والابداع المعاصر لعبا دورا عظيما وحاسما في كل الانتفاضات والثورات في أوربا الوسطى أكثر مما لعبته في الثورات الشعبية الأوربية.
وفي هنغاريا مثلا تجمع المئات من الكُتّاب في حلقة أدبية أطلقوا عليها اسم الشاعر الرومانسي بيتوفي وخلقوا نقاشا ثقافيا وسياسيا مثمرا حضر لانتفاضة 1956 ضد الهيمنة السوفياتية. أيضا لعب المسرح والسينما والأدب والفلسفة دورا كبير في تحضير تربة خصبة خلال سنوات طويلة لانتفاضة براغ عام 1968. أيضا لا ننسى أن قرار منع عرض للشاعر الرومانسي البولندي الكبير ميكيفيتش كانت الشرارة التي أدت إلى اندلاع الثورة الطلابية في بولندا عام 1968. إن هذا الزواج المُبهِج بين الثقافة والحياة وبين الابداع والشعب طبع بقوة الثورات في أوربا الوسطى ومنحها جمالا منقطع النظير وغير قابل للتقليد ونحن الذين عشنا هذه الثورات سنظل مفتونين بهذا الجمال إلى الأبد"
وفي معرض هذا النص تحدث كونديرا أيضا عن تجربته الشخصية إزاء الأدب الروسي الذي يعتبره أداة من أدوات الهيمنة الروسية ما جعله ينفر بشدة من هذا الأدب ويعتبره سوداويا وهستيريا ينشر السلبية ويزرع اليأس والكآبة حتى لو تعلق الأمر بكتاب من الطراز الرفيع مثل دوستيوفسكي وتولستوي وتشيكوف.
وكل كتاب وأنتم بخير...
الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم
اشترك