أول لقاء لي مع الموت كنت أصغر سنا من أن أستوعبه. لكن على الرغم من سنوات عمري التي لم تتعدى وقتها ال ٦ سنوات، ما زلت أتذكر طرقات قلبي اللي كانت بتهز جسدي الصغير وأنا أصعد سلالم بيت جدي فيقابلني جسده هابطا محمولا على أكتاف الآخرين.
اللقاء الثاني كان مع وفاة أمي، وقتها ما كنتش صغيرة، كنت في عامي الرابع والعشرين. لكني كنت لا أزال أحتفظ بإيماني الساذج بأن "هذا لن يحدث لي، إنه يحدث فقط للآخرين". كنت باحس بالتعاطف مع أي ممن أقابلهم ممن فقد أمه أو أبيه. لكن كان هناك صوت موقن بداخلي بيؤكد أن هذا لن يحدث لي. بالتأكيد ستعيش أمي ويعيش أبي لحد ما يشوفوا أحفادي. ونتجمع كل جمعة على الفطار. وكل عيد حول أطباق الكحك والبسكوت، لا شك في ذلك. لهذا جاء حدث وفاة أمي كلطمة يتلقاها وجهي فتضيء أمام عيني حقيقة مفزعة: أنا كمان ممكن أمي تموت.. بل هي ماتت بالفعل. فماذا بعد؟
فور إحساسي بأني وبأن حياتي غير محصنة ضد الموت بدأ شعور الخوف يتسلل إلى أفكاري. حتى أنني أظن أن وفاة أمي كانت بداية رحلتي مع الشعور بالقلق المزمن اللي لا يزال يلازمني حتى الآن. شعور بأنني وأننا جميعا مش محميين من تقلبات القدر. وإننا ممكن نبات في ليلة واحنا فاكرين إننا آمنين ونصحى نلاقي حياتنا انقلبت رأسا على عقب. ففقدنا أمننا وفقدنا أحبابنا.
لكن لا شيء يعزز هذا الشعور أكتر من معاصرة وفاة شخص يماثلنا في العمر أو في الظروف. على سبيل المثال فجعنا - نحن جيل مواليد الثمانينات - في أحد أنبغ أصوات جيلنا. فقد فقد الوسط الصحفي والثقافي ولا أبالغ حين أقول فقدت الإنسانية الكاتب الصحفي النبيل محمد أبو الغيط.
وقد لا يكون إسم محمد أبو الغيط إسما معروفا على مستوى الجمهور العربي، و \لا حتى المصري. لكن أبناء جيلنا ممن شهدوا على بدء موجة التعبير بالكتابة في المدونات بين أعوام ٢٠٠٦ و ٢٠٠٨ التي أدت ببعضنا للتحول إلى كتاب، وصحفيين وفنانين، عارفينه كويس قوي. وعارفين قدر الخسارة التي خسرتها الدنيا عموما بوفاة كاتب موهوب وصحفي متمكن معروف بمهنيته وصدقه وتميزه حتى وإن خطفه الموت قبل ما يكمل عامه الخامس والثلاثين...
لكن حالات مثل تلك، مش بالضرورة يكون تأثيرها فقط الإحساس بغدر الزمان وعدم منطقية قوانين الحياة. بل إن نصف الكوب الفارغ هنا مش محتاج شرح كتير. فقد نرى في حالات وفاة الشباب، وبخاصة الموهوبين منهم زي أبو الغيط، إزاي كانت سيرتهم أطول من عمرهم. إزاي قدروا يسيبوا أثر في حياة كل من قابلوهم. إزاي كان وجودهم على قيد الحياة مخليها أجمل وإزاي بعد وفاتهم ما بيصعبوش علينا على أد ما بتصعب علينا الحياة عشان ما بقوش فيها.
خلينا نبص للحكمة وراء اختفاء كل شخص حسينا انه اتخطف من وسطنا قبل أوانه، ونحاول مسابقة الزمن لترك أكبر قدر ممكن من الآثار الطيبة في حياة الآخرين، حتى لو كان ما نتركه أثر كأثر الفراشة.
فأثر الفراشة لا يزول، وإن قصر عمر الفراشة.
الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم
اشترك