مدونة اليوم

جمانة حداد: "عَ الفاضي"

نشرت في:

من الآخر: في سنة ٢٠٢٣، لا أريد أن أعمل على مشروع مهم. لا أريد أن أطلق مبادرة عظيمة. لا أريد أن أحقّق حلماً كبيراً. لا أريد أن أتعلّم هواية جديدة - أو أمارس واحدة قديمة. لا أريد أن أنجز، لا أريد أن أكتسب، لا أريد أن أنفع ولا أن أستنفع، أن أستثمر أو أن أُثمر. أريد، فقط، أن أعيش.

ㅤ
©
إعلان

لن أنسى ما حييت كلام معالجتي النفسية عندما اقترحت عليّ في أحد الأيام أن أكتب يومياتي وخواطري، فأجبتُها على الفور بحماسة: "فكرة ممتازة! يمكنني أن أستفيد منها عندما أعمل على كتاب جديد! أن أغذّي الكتاب بخواطري تلك!". ابتسمتْ الدكتورة يومذاك وهي تهزّ برأسها ثم قالت: "ليس هناك حاجة لكي يكون كل ما نقوم به ذا فائدة يا جمانة. أريدك أن تتحرري من منطق الإنتاج. أن تقومي بشيء لمتعة القيام به، أو حتى بلا أي سبب على الإطلاق. أن تقومي بشيء "هباء". 

لم أستوعب قصدها على الفور. كيف يعني "هباء"؟ كيف يعني "عَ الفاضي"؟ لكني لاحقاً فكّرتُ وفهمتُ: نحن، غالبيتنا في الأقل، عبيد لفكرة الإنتاج. نولد ونكبر ونتربّى ونتفاعل تحت وطأة هاجس أساسي: هاجس أن "نحقق" شيئاً، بوقتنا بحياتنا بإمكاناتنا بتعليمنا بمواهبنا، حتى نكاد ننسى أنه يحقّ لنا بأوقات وفسحات لا نفعل فيها شيئاً على الإطلاق. بداية سنشعر أننا بلا قيمة. أننا نهدر الأوكسجين الذي نتنفسه. أننا نضيّع الطاقات والفرص والأيام، وأن هذا العالم مكان سييء تحديداً بسبب أمثالنا. "أنظري من حولك. راقبي جيداً. راجعي حسابات الآخرين على السوشال ميديا، ولاحظي كم من الأمور الهائلة والجميلة والمثيرة للاهتمام يقومون بها. أما أنتِ فلا شيء. صفر على الشمال. هيا انهضي وافعلي شيئاً مفيداً بدل إضاعة الوقت في إضاعة الوقت".

لكننا، يا صديقاتي وأصدقائي، نحتاج أيضاً، بل خصوصاً أحياناً، الى إضاعة الوقت. لأننا هكذا، أكاد أقول فقط هكذا، نتيح لأنفسنا أن "نكون". بلا ضغوط بلا أقنعة بلا توقعات. بلا روتوش بلا مثابرة بلا تحديات. بلا خطط بلا أجندات بلا أهداف. نعم، في زمن المقارنات بامتياز، زمن انستاغرام وتويتر وما شابههما من منابر القصاص الاجتماعي، يكمن الإنجاز الحقيقي في ألا ننجز شيئاً. في أن نرفع صوتنا في وجه كل هذا الإرهاب النفسي ونصرخ: حلّوا عنّي. أنا أريد، فقط، أن أعيش. 

في سنة ٢٠٢٣، ها أنا أعد نفسي بأن أحاول أن أكون لامبالية كعصفور يغنّي لا ليُطرِب، بل لأنه، فقط، على باله أن يغنّي. 

أعد نفسي بأن أحيا، قليلاً، "عَ الفاضي".

الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم

ابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق مونت كارلو الدولية