ثقافة

وفاة زيجمونت بومان: صاحب "المجتمع السائل" وقلق ما بعد الحداثة

توفي يوم أمس الاثنين 9 كانون الثاني/يناير المنظّر البولندي البريطاني زيجمونت بومان في مدينة ليدز في بريطانيا عن عمر ناهز 91 عاماً كان فيها شاهداً حيّاً وفاعلاً في آمال وآلام وفظاعات وتحولات كبيرة عرفها قرن كبير كالقرن العشرين.

رويترز
إعلان

ولد في مدينة بوزنان (في الغرب البولندي) في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1925 في عائلة يهودية. وبعد احتلال بلاده من قبل النازيين هرب عام 1939 إلى الاتحاد السوفياتي وكان وقتها ماركسياً ملتزماً. انخرط في وحدات عسكرية بولندية بقيادة سوفيتية واحتل فيها وظيفة المفوض السياسي.

بعد التحرير عاد إلى وارسو أستاذاً للفلسفة وعلم الاجتماع قبل أن يهاجر إلى إسرائيل في آذار/مارس 1968 في أعقاب حملة معادية للسامية أطلقها النظام الشيوعي وقتها، غير أنه سرعان ما ترك الدولة العبرية باتجاه بريطانيا التي بقي فيها مشتغلاً في جامعة ليدز منذ عام 1973 حتى وفاته.

لم تلق كتاباته الأولى التي كرسها للاشتراكية البريطانية والطبقات الاجتماعية وحركات العمال سوى نجاحاً نسبياً، وكذلك كانت حال أعماله عن الهولوكوست والعلاقة بين الحداثة والشمولية، والعولمة... وغيرها. غير أن بومان سيعرف شهرة فكرية كبرى بعد نشر دراسات ركز فيها على ما أسماه نهاية "الهياكل المستقرة" في المجتمعات المعاصرة وكان ذلك بنتيجة "محاورات" نقدية تطرق فيها أعمال ماركس وغرامشي وأنتوني جيدنز وروبرت كاستل وبيار بورديو تفتق عنها بنحت مفهومه عن "المجتمعات السائلة".

كان بومان واحداً أكثر الناقدين شراسة للحداثة ومجتمع الاستهلاك وأبدى في ظهورات إعلامية حديثة خيبة أمله لكوننا نعيش في سياسات ليبرالية جديدة وفيض تكنولوجي عارم تجعل من وعد الليبرالية الجديدة في الثراء والوفرة للجميع مجرد وهم أو كذبة كبيرة. في المجتمع غير المستقر أو السائل، يحتل مفهوم "الإفقار" مكاناً مركزياً وتعاني فيه أغلبية مضطهدة ومطرودة خارج جنة الليبرالية على حساب سعادة ورفاه الأقلية المحظوظة.

غير أن المجتمع الحديث يكون "سائلاً" بحسب بومان بمعنى محدد: حين تكون الشروط التي يوجد ضمنها البشر ويقومون بالفعل متغيرة على درجة كبيرة من السرعة تجعل من قدرتهم على استيعاب التغير وهضم الجديد وبناء سلوكات وعادات على أساسه صعباً إلى أبعد حد. يزدهر في أجواء فردانية موحشة كهذه ما أسماه بومان "نضال الأريكة" أي تحول السياسة، أي النظر والتدخل في سير الأمور العامة، إلى نشاط يمكن ممارسته من المنزل وبالتالي إعاقتها عن إمكان إحداث التغيير. تلك هي الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام الرقمية، وكذلك الانترنيت الذي كان يعتقد بأنه قوة ثورية قادرة على تشجيع إن لم يكن إحداث وخلق التغيير.

يصعب الإحاطة بكل ما تطرق له بومان في تحليلاته: من دروس الإبادة الجماعية النازية إلى نقد الحداثة، ومن الوضع الحالي في أوروبا إلى دور المثقفين في الفن مروراً بـ"الحياة السريعة" وقضايا الهوية. فالهوية في المجتمعات السائلة الفاقدة لهياكل على درجة ما من الاستقرار ولو المؤقت لا يمكنها أبداً أن تكون أمراً ناجزاً أو نهائياً. ما يحل محل "الهوية" بمعناها الكلاسيكي هي جماعات أو أسراب ذات ترابط ميكانيكي صرف توفر شعوراً واهماً بالأمان كما هي الحال على وسائل التواصل حيث يحل "عدد الأصدقاء" محل الصداقة الحقيقية ومشاركة القيم والتعاون الاجتماعي والسياسي.

أما الحرية في المجتمع السائل فهي مضمونة ومصانة للجميع تقريباً لكن بطريقة مشوهة: على الناس تقع كامل المسؤولية ولهم مطلق الحرية في حل مشاكلهم غير أن الحل لا يمكن أن يكون في متناول أيديهم أو ناتجاً عن مبادراتهم الفردية الحرة. والمحاولات المستمرة لحل المشاكل بهذه الطريقة والتي تستدعي الفشل بالضرورة هي اليوم أحد المصادر الرئيسية للإحباط العام والقلق المتزايد الناجم عن فشل المبادرات، الأمر الذي يدفع بقطاعات واسعة في المجتمعات ما بعد الحديثة إلى تفضيل الأمن على الحرية.

الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم

ابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق مونت كارلو الدولية