في غالبية بلدان العالم، يتساءل كثير من الناس في المدن والقرى والأرياف عما إذا كان هذا الشخص أو ذاك مُختلَّ المدارك عندما يفاجئونه وهو يتحدث إلى أزهار أو نباتات أو أشجار.
ومع ذلك فإن الأبحاث العلمية حول ذكاء مملكة النبات ما انفكت تفرض نفسها على مختبرات الجامعات ومراكز البحث العامة والخاصة في البلدان المتقدمة. وصحيح أن الطريق التي سلكها الباحثون المهتمون بهذا الموضوع ليست معبدة ولا تزال أصوات تعلو هنا وهناك حتى في البلدان المتقدمة يرى أصحابها في الباحثين الحريصين على إثبات ذكاء الحيوان أشخاصا راغبين في الركض وراء الأضواء أكثر من رغبتهم في البحث عن حجج وبراهين لإثبات ما يريدون إثباته. ولكن هؤلاء الباحثين مقتنعون بأن الوقت سينصفهم على المدين المتوسط والبعيد. وهم يستمدون من التاريخ أمثلة عديدة عن علماء وباحثين كانوا محل سخرية أو هدفا لممارسات تعسفية لأنهم حرصوا على التحلي بالجرأة والثبات وطول النفَس قبل أن ينصفهم التاريخ.
ومن الباحثين الذين يندرجون اليوم في هذا الإطار البروفسور الإيطالي ستيفانو مانكوزو الذي خصص لموضوع ذكاء النبات عشرات الأبحاث الدقيقة في المخابر والذي أحدث ضجة في عام 2005 عندما دعا للاعتراف دوليا بمصطلح " علم الأَحياء العصبي النباتي ". ومنذ عام 2010 أصبح ستيفانو مانكوزو الذي يُدَرِّس في جامعة فلورنسا الإيطالية حريصا أكثر من قبل على نقل عصارة أبحاثه وأبحاث الفرق التي يشرف عليها في ما يتعلق بذكاء النبات عبر محاضرات وكتب لفائدة الجمهور الواسع. وهذا مثلا حال كتابه الصادر عام 2014 والذي ترجم إلى أكثر من عشرين لغة منها الفرنسية وعنوانه " ثورة النبات".
النباتات تستشعر الخصوم
ومن الباحثين المتخصصين في علوم النبات والذين اقتنعوا بجدية أبحاث الإيطالي ستيفانو مانكوزو الباحث الفرنسي غسافييه أورمانساي Xavier Ormancey الذي يحرص من حين لآخر على تذكير من ينصت إليه متحدثا عن ذكاء النبات بأن هناك علاقة قرابة بين الإنسان والنبات. ويقول في هذا الصدد:" كان داروين أول من تحدث عن الذكاء النباتي وقارن النباتات بكائنات حيوانية ذكية هي الحشرات. والحقيقة أننا عندما نتحدث اليوم عن ذكاء النباتات، فإننا نعني أساسا قدرتها على استشعار هجوم عليها قبل وقوعه. وثمة قواسم مشتركة عدة بين البشر والنبات في ما يخص موروث كليهما الجيني. وكلا الطرفين نتاج مخاض في أعماق مياه المحيطات قبيل ثلاثة مليارات وسبع مائة مليون سنة خلت. وهذا المخاض كان وراء كل أنواع الكائنات الحية الموجودة اليوم والتي نعرف منها ثلاثة ملايين ومائتي ألف نوع حتى الآن. فنحن نتحدر في نهاية المطاف من النبات وعلاقتنا معه شبيهة بالعلاقات القائمة بين أبناء العمومة".
وكثيرا ما تُطرح على الباحث الفرنسي غسافييه أورمانساي المتخصص في علوم النبات أسئلة كثيرة من قبل المستمعين إليه عن ذكاء النبات منها السؤال التالي: هل صحيح أن مبدأ التضامن يتم تفعيله في كثير من الحالات لدى مملكة النبات للتصدي إلى الأعداء والخصوم؟ وغالبا ما يستشهد الباحث الفرنسي وهو يرد على سائليه بأمثلة محددة منها مثلا " الاكتشاف الذي تم التوصل إليه في إحدى محميات إفريقيا الجنوبية والذي بدأت معالمه تتضح يوما ما عندما اهتدى حراسها ذات يوم إلى نفوق عدد كبير من حيوان الكَوْدِ الأكبر وهو نوع من ظباء الغابات. وحيرهم ذلك الأمر لأنه لم يكن يوجد في المحمية أي حيوان قادر على مهاجمة هذه الظباء بالإضافة إلى أنه كانت لديها كميات كبيرة من الغذاء والماء.
ولكن الباحثين والخبراء المتخصصين في الثروة النباتية توصلوا إلى إثبات ظاهرة عجيبة هي قدرة النباتات على استشعار المخاطر التي تهددها. وهذا ما حصل لأشجار الأكاسيا التي كانت تتغذى عليها هذه الظباء. فهي قادرة على إطلاق غاز الإيثلين عندما تدرك أنها مستهدفة من قِبل حيوان الكَوْدِ الأكبر. وهذا الغاز تحمله الريح إلى أشجار الأكاسيا الأخرى بوصفه رسالة واضحة عن وجود خطر داهم. وهو في الوقت ذاته دعوة للدفاع عن النفس. بلى إنه اتضح أن هذه الأشجار قادرة على إفراز مواد سامة تنفثها في أوراقها. وعندما تتغذى الحيوانات عليها تُعرِّض حياتها عاجلا أو آجلا لخطر الموت. وهذا ما يسميه خبراء النبات " صيحة الشجرة القاتلة".
ويواصل الباحث الفرنسي غسافييه أورمانساي الحديث عن بعض ذكاء النبات فيقول: " ثبت في اليابان مثلا أن بعض الأشجار قادرة على استشعار دقائق التغيرات التي تطرأ على الأمواج الصوتية المتصلة بالزلازل تحت الأرض.
وأذَكِّر هنا بان الإنسان لايزال غير قادر للأسف الشديد على استشعار الزلازل بشكل مبكر وهو ما يفسر الخسائر التي نعرفها والتي تتسبب فيها الزلازل.
والواقع أن الأشجار قادرة على استشعار هذا الخطر لأنها غير قادرة على الفرار. ولا يمكن أن تدافع عن نفسها إلا من خلال تنمية جذورها على نحو يجعلها قادرة أمام الهزات.
وقد بدأ اليابانيون يدرسون بعمق هذا السلوك للاستفادة منه. وعندما نكون قادرين على ضبط هذه الإشارات التي تلتقطها النباتات تحسبا للمخاطر، فربما نكون قادرين عندئذ على استشعار أخطار تسوناميات أو زلازل قبل شهر من وقوعها."
إلى أي حد يمكن للنباتات أن ترد الجميل بالنسبة إلى حيوانات تساعدها وقت الشدة؟
السؤال سعى الإيطالي ستيفانو مانكوزو مطلق مصطلح " علم أحياء النبات العصبي" إلى الرد عليه من خلال القيام بعدة تجارب على العلاقة التي تقيمها مثلا أشجار الأكاسيا مع النمل. فقد اهتدى الباحث الإيطالي إلى أن هذه الأشجار قادرة على إفراز مادة تشبه الرحيق يتغذى عليها النمل مقابل خدمات معينة تحصل عليها أشجار الأكاسيا كتصدي النمل بطرق شتى لنباتات أو أشجار أخرى تنافس هذه الأشجار في المواد المغذِّية أو في الماء. ولكن الأبحاث التي أجراها البروفسور ستيفانو مانكوزو حول هذه النقطة بالتحديد كشفت شكلا من أشكال التبعية المفروضة من قِبل أشجار الأكاسيا على النمل الذي يساعدها على التصدي للخصوم والأعداء. فقد اتضح أن الرحيق التي تمنحه الأشجارُ النملَ يتغير طعمه شيئا فشيئا على نحو يجعل النمل راغبا فيه أكثر فأكثر.
وتخلص الأبحاث العلمية إلى أن رغبة النباتات في الاستفادة من كل قطرة ماء لاسيما في الفترات الحرجة كفترات الجفاف التي تطول أكثر من اللزوم تجعلها مُرهَفَة السمع لتسقط صوت قل قطرة ماء قد تنزل من السماء.
ويقول الصحافي العلمي السويسري فردينان ريشتير Ferdinad Richter الذي عاين كثيرا من التجارب التي تؤكد أن للنبات آذانا متحدثا عن إحداها: "أُجريت تجرِبة على نبتة الجُلْبَانِ أو البازيلاء تمثلت في مُحاكاة خرير المياه إلى جانبها لمحاولة الرد على السؤال التالي: هل يُمكن أن تتجهَ جذورُ النبتة إلى المكان الذي تنبعث منه أصوات تُحاكي خريرَ المياه؟ وهذا السؤال يقودنا في حد ذاته إلى التساؤل عما إذا كانت النباتات لديها القدرةُ على الإنصات. وفعلا اتضح من خلال هذه التجرِبة وتجاربَ أخرى أن جذورَ النباتات قادرة على سماع أصوات المياه.
وفي حالِ وضع مُكَبِّر لأصوات المياه قرب نبتة البازيلاء، فإننا نلاحظ أن جُذورَها تتجه نحوه. مرة أخرى أرى أن هذا الأمرَ مُذهل."
دماغ النبات مختلف عن دماغ الإنسان
ما الذي يمكن التشديد عليه بالنسبة إلى علاقة الإنسان بالنبات إذا اقتنعنا أن للنبات ذكاء وهو ما أثبتته تجارب علمية عديدة؟
الحقيقة أن الذين أجروا مثل هذه الأبحاث ومنهم البروفسور الإيطالي ستيفانو مانكوزو يلحون على ضرورة أن يدرك الإنسان أنه ليس بالضرورة أن يكون للنبة دماغ على شاكلة دماغ البشر حتى تكون ذكية. وهم يدعون الإنسان لتغيير سلوكياته السيئة تجاه الخضرة والاخضرار لأن الإنسان يتطبب ويتغذى أساسا على النباتات ولأن النبات قادر على مساعدة الإنسان على التصدي لعدو لدود هو التلوث كما تقول الصحافية الفرنسية المتخصصة في صحة الطفل:
"الدراسة التي أجرتها وكالة الناسا الفضائية الأمريكية عامَ 1980 تخلُص إلى أن عددا من النباتات قادرة على تنقيةِ أجواءِ المنازل والمكاتبِ من العناصر المُلوِّثة. فهي تمتص هذه الملوثاتِ وترسلها إلى جذورها حيث تقضي عليها الكائناتُ الحيةُ المتناهية الصِّغر في حجمها والموجودةُ في الأتربة التي تنمو فيها هذه النباتات. إن العمليةَ بسيطة ولكنها ناجعة.
وأفضلُ هذه النباتات في هذا المجال نبتةُ اللبْلاب المتسلقة. فهي تنظفُ أجواءَ المكاتب والمنازل من مُلوِّثات طَلاء الجُدْران. ويرى خبراء النبات أن الواحدةَ منها قادرة على تنقيةِ هواءِ مَساحة قدْرُها عشَرةُ أمتار مربعة وعلى الحفاظِ على هواء سليم في منزل يبلغ ارتفاع جُدْرانه مترين ونِصفَ المتر".
الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم
اشترك